لو خيرت أحدهم بين أمرين لا ثالث لهما: أن تتعرض عاصمته لهجوم انتحاري يهز وسط المدينة، أو أن تجتاح ضواحيها أعمال شغب صاخبة لاختار على الأرجح أعمال الشغب· فبعد التجربة المريرة التي عاشتها لندن في السابع من يونيو الماضي يدرك سكان العاصمة البريطانية أن عنف الضواحي هو أقل ضررا من تفجير الحافلات وأنفاق الميترو، ولا يمكن أبدا مقارنة تلك الهجمات بالاضطرابات التي تجتاح مؤخرا الضاحية الشرقية لمدينة باريس· لكن في المقابل بينما يعد منفذو تفجيرات لندن على أصابع اليد الواحدة، فإنه لا أحد يستطيع الجزم بالعدد الدقيق للمسؤولين عن أعمال الشغب في فرنسا الذين حتما يقدرون بالمئات· وبالرغم من أن فرنسا وبريطانيا تواجهان تقريبا المشكلة ذاتها، إلا أن هناك مؤشرات تجعل مشكلة فرنسا أكثر صعوبة·
لقد أدان نيكولا ساركوزي، وزير داخلية فرنسا الجريء والطموح أعمال الشغب ونعت المسؤولين عنها بـ''الأوباش'' و''المجرمين''، كما تعهد بـ''تطهير'' المناطق التي اندلعت فيها تلك الأعمال· وشكلت تلك التصريحات فرصة سانحة لخصومه في اليسار كي يحملوا ساركوزي مسؤولية ما يحصل، لا سيما رفضهم للطريقة القاسية التي تعامل بها مع الشباب الغاضب· ومن ناحيته هاجم اليمين المتشدد سياسات ساركوزي السابقة المتعلقة بالهجرة· والحقيقة أن نيكولا ساركوزي كان ذكيا في استخدام ورقة التجاذب السياسي داخل فرنسا· فهو من جهة دعم بعض الإجراءات المفيدة للمهاجرين مثل برامج التمييز الإيجابي، ومنح حق التصويت للمقيمين من غير المواطنين الذين مكثوا في فرنسا لفترة طويلة· إلا أنه من جهة أخرى أرسل إشارات قوية إلى اليمين الفرنسي مفادها أنه يعرف كيف يستخدم العصا الغليظة في التعامل مع الجاليات المهاجرة· وفي ظل هذه الأزمة يبقى أن نعرف ما إذا كانت هذه المراوحة بين إظهار الجزرة والتلويح بالعصا تتمتع بأية مصداقية في مدينة منقسمة على نفسها·
وفي نظري لا تكمن المشكلة في الهجرة بقدر ما تكمن في الفشل الذريع في إدماج المهاجرين· فبالرغم من أن فرنسا تعتبر أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي من حيث عدد السكان الذين ولدوا خارجها إذ تصل نسبتهم إلى 10%، إلا أن ذلك لم يعد سارياً في الوقت الحاضر· فقد تحولت فرنسا من بلد مستقبل للمهاجرين إلى بلد رافض لهم، حيث يأتي معظم القادمين الجدد في إطار الالتحاق بعائلاتهم التي عاشت في فرنسا لسنوات طويلة، وربما لعقود مديدة· بيد أن المشكلة تبدأ عندما ينتقل هؤلاء للعيش في أحياء معزولة تفتقر إلى الأفق الاقتصادي وتعاني من معدل مرتفع للبطالة يصل إلى أكثر من ضعفي المعدل الوطني في فرنسا، وهو المعدل الذي يظل على كل حال مرتفعا حتى في مجمل فرنسا التي يصل فيها إلى أكثر من 9%، ناهيك عن العدد الكبير للمهاجرين الذين يقبعون في السجون الفرنسية· واللافت للنظر أن جل من ألقي عليهم القبض من قبل السلطات الفرنسية على هامش أعمال الشغب ينتمون إلى الجاليات المهاجرة حيث تشكل تفاصيل حياة معظمهم قصصا مؤسفة تحيل على الفشل الدراسي والبطالة والسقوط في براثن الجريمة·
غير أن الهجرة كنشاط بشري طبيعي لا يفترض بها أن تعني الإقصاء أو التهميش، لأن معظم المهاجرين القادمين من بلدانهم الأصلية إنما ينشدون حياة كريمة لهم ولأبنائهم دون أن يضمروا النوايا السيئة· وبالمقارنة مع أوروبا استطاعت الولايات المتحدة إدماج القادمين الجدد وصهرهم في بوتقة المجتمع الأميركي· فقبل فترة ليست بالطويلة عندما كنت في إحدى المدارس جنوب تكساس قريبا من الحدود المكسيكية سمعت الأطفال وهو ينشدون بصوتهم الشجي والصادق ''إني فخور أن أكون أميركيا، وفخور أن أعيش في الولايات المتحدة''· وخلافا للتهميش الاقتصادي الذي يطال المهاجرين في أوروبا، توفر سياسة السوق المفتوحة في أميركا العديد من فرص العمل للمهاجرين·
ينشر بترتيب خاص مع خدمة ''لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست ''